فقه الأولويات كتاب شهير للشيخ د. يوسف القرضاوي رحمه الله ، ويناقش الموازنة بين تلك الأولويات من منظور ديني ، وهو ما ينطبق على الجانب الأخر الذي نحن بصدده.
و المتأمل في مجريات الحياة السياسية المصرية يتعجب من طبيعة القضايا التي تطرح للنقاش المجتمعي ، والتي توحي كأن مصر تعيش في كوكب أخر بعيدا عن التفاعلات الدولية والمحلية الضاغطة ، وهو ما تشعر به عندما تشاهد وتتابع الملاحظات المطروحة من كبار المسئولين حول رأيهم الخاص في الاثار السلبية لتوظيف دور الدراما في تنمية الذوق المجتمعي على المتلقين.
بالطبع كانت الدراما ومسلسلات رمضان دوما محلا لآراء مختلفة في السنوات الأخيرة على وسائل التواصل الاجتماعي ، حول مدى جاذبية مضمونها من عدمه، وما تطرحه من أفكار ومستوى اداء النجوم بها و توظيفها سياسيا لبناء سردية خاصة بأجهزة الدولة.
لكن أن يتم مناقشة هذا الموضوع وغيره من عشرات الملفات الأخرى وطرحها من المستوى السياسي الأعلى سواء من الجانب الرئاسي أو الوزاري ، وعلى شاكلتها قضايا أخرى مثل الأرث وقانون الأحوال الشخصية والبدانة وغيرها ، والتي يجب أن تكون محل مناقشات مستويات أدنى رأسيا سواء داخل مجلس النواب وافقيا في أماكن اخرى منها المجلس الأعلى للاعلام ووسائل الاعلام والصحافة الفنية ونقابات السينمائيين والممثلين والاعلاميين وهو دورها الأساسي.
لكن أن تقوم الدولة بأجهزتها بطرح هذه القضايا وادارة نقاش حولها ، وكأنها الموضوع المحوري، وفي هذه اللحظة بالذات التي يتم فيها اعادة تشكيل المنطقة العربية والشرق الأوسط برمته ، لصالح قوي اقليمية بعينها ، وحلولها مكان القوى القديمة وخاصة محل الدور التاريخي والجغرافي والبشري لمصر ، والتي كان يسميها القوميين ” الاقليم القاعدة” باعتبارها الدولة الأكبر في العالم العربي، فهذا يمثل نوع غيابا في طرح الأولويا ، وخللا في التناول .
من جانب أخر هناك قضايا أولى بالاهتمام ، وأبرزها حرب الابادة الجماعية التي تشن على الشعب الفلسطيني منذ أكتوبر 2023 ولا تزال ، والتي ادت لاستشهاد ما لا يقل عن 50 الف فلسطيني واصابة الالاف من الأطفال والنساء والاف اللبنانيين ، وباتت تسعى معه دولة الاحتلال الاسرائيلي إلى رسم خارطة جديدة على المستوى الاقليمي في فلسطين والمشرق العربي بأكمله ، وفي الاقليم بتهميش قوى أخرى مثل و ايران وتركيا ، مستغلة تولى ترامب مقعد الرئاسة الأمريكية.
وبالتأكيد مصر في قلب هذه المخططات باعتبارها الدولة التي تمثل تهديدا حقيقيا لهذا الكيان . والرسالة كانت أكثر وضوحا لها من خلال السيطرة على محور فيلادلفيا وارتكاب تلك المذابح اليومية على حدودها ، والعمل على تطبيق سيناريو التهجير، و وهو ما لا يتناسب معه رد الفعل المصري الرسمي.
هذه اللحظة التي ترسم فيها خرائط سياسية للمنطقة مستغلة حالة السيولة القائمة، ويتم انهاء دور بعض الانظمة واحلالها بأخرى جديدة ، في الوقت الذي تتعرض فيه مصر للتهديد أمنها القومي ببناء سد النهضة ، ولم تقم بدورها في مواجهة المطامع الأثيوبية في السيطرة على مياه النيل.
وهو ما يشير إلى خلل واضح في وضع جدول الأعمال والذي يجب أن يحظى بالاهتمام ، ونشير هنا إلى بعض الملاحظات الخاصة بطرح موضوع الدراما بالذات :
ـ هل اثارة تلك الملفات على المستوى الفني والرياضي والديني مجرد صدفة أم يتم بشكل عمدي ، ويتوازي معه حالة كبيرة من الاستقطاب السياسي والمجتمعي بهدف تغييب المجتمع عن مناقشة قضاياه الحقيقية في الجانب الاقتصادي والسياسي والاجتماعي ، ومناقشة التهديدات الاقليمية الحقيقية التي يتعرض لها من الخارج ، ليس كمجرد فزاعة للمجتمع بل بطرحه بشكل موضوعي وسماع أراء كل الخبراء والسياسيين من مختلف القوى السياسية والحزبية بهدف طرح بدائل لمواجهته.
ـ من جانب أخر في نفس الوقت هناك عدد من القضايا المهمة يغيب النقاش أو يتم بشكل جزئي ، ثم تسير الدولة في رؤيتها في الجانب السياسي و الاقتصادي متجاهلة الأراء الأخرى، وهو ما يحدث في الحوار الوطني مثلا .
ـ المثير أن انتقاد هذه الدراما الرمضانية وحديث السيد رئيس الجمهورية عن امكانية دعمها بعشرين إلى مليار جنيه ، السؤال هنا هل الانفاق على المسلسلات هو دور الدولة الرئيسي ، أم يمكن أن تتم في ملفات أخرى مهمة مثل التعليم والصحة ، والصناعة والزراعة ، وتطوير البحث العلمي ، بدلا من التركيز فقط على مشروعات لا تمثل أولوية مجتمعية في ظل الوضع الاقتصادي الحالي.
ويرى الكثيرون أن انتاج الدراما ليست وظيفة أجهزة الدولة ، التي تكمن وظيفتها الأساسية في ادارة الشأن المجتمعي ، واتباع سياسات اقتصادية واجتماعية أكثر رشادة بهدف تحقيق الرفاة للمجتمع بما فيها توفير الحقوق الإنسانية والأساسية في معيشة مناسبة .
وهذا الدور ينبغي أن يترك للقطاع الخاص وهو الذي يضع النظرة الربحية ضمن أهدافه الأساسية الذي كان دائما ما يقوم بانتاج هذه المسلسلات ، وحتى عندما كان قطاع الانتاج بالتليفزيون المصري يقوم بالانفاق على هذه الدراما في الثمانينات والتسعينات كان دائما ما يقوم بتسويق هذه الدراما خارج مصر للاستفادة منها ماديا بما يغطي تكلفة الانتاج ويزيد.
وكانت هذه الدراما تصنع قصصا لكبار الكتاب والمخرجين والفنانين و تقوم بدور اجتماعي حقيقي للتنبيه على مواطن الخلل ، وتهدف لترسيخ القيم الأساسية في الحق والخير والعدالة ، كما استمتعنا بدراما ركزت على هموم المجتمع كانت تصنع لمؤلفين بارزين على شاكلة أسامة انور عكاشة وجمال الغيطاني ووحيد حامد وعشرات الكتاب.
ـ ايضا يثير المفارقة انتقاد المسلسلات المعروضة في هذا الموسم ، بالرغم من أن أغلب انتاجها من الشركة المتحدة التابعة لأجهزة الدولة والتي تملك عشرات القنوات الفضائية والمواقع الاخبارية ومنصات التسويق ، وتضع عشرات المعايير للسيناريوهات والقصص التي سيتم اعدادها في شهر رمضان ، و تختار الفنانين الذين يقومون بالأدوار الرئيسية والثانوية والمخرجين والكتاب . فيبدو أن الدولة تنتقد نفسها بالتالي بدلا من تصحيح الأوضاع . .
ـ في النهاية كان من الأولى نقل هذا الحوار إلى مستويات سياسية أخرى إلى المجلس القومي للمرأة وحقوق الإنسان والطفولة ، وبعضها لديه مراصد لمتابعة هذه الدراما وتشريحها وتكريم المميز منها ، بدلا من أن أن يتم النقاش حولها في اعلى المنصات السياسية لتكون من الاولويات الرئيسية للاعلام ، وبالتالي تتوه معها عشرات القضايا الأخرى التي تستحق النقاش.
وهذا ما ينقلها إلى سؤال اخر هو من يحدد أولويات النقاش المجتمعي وتوجيهه ناحية موضوعات معينة تزيد من التعصب الديني والرياضي والفني ، لشغل الراي العام ، أو التمهيد لاصدار قرارات واجراءات سياسية وقانونية ، و في المقابل تجاهل قضايا أخرى أهم في الاقليم وتؤثر على مستقبل مصر داخليا وخارجيا.